Image Not Found

لماذا نبكي على الحسين؟

إرشاد بن موسى اللواتي

يتساءل ويسأل بعض المسلمين “لماذا يبكي الشيعة مقتل الحسين رغم مضي قرونٍ من الزمن على واقعة شهادته؟”… وقد تعرض للرد على مثل هذا السؤال الكثير من محبي رسول الله وأهل بيته الأطهار، من الشيعة وغيرهم على مر القرون، كتابة وخطابة وشفاهة. ومع ذلك يتكرر السؤال!
وأنا أرد ببساطة: وفاءً لرسول الله!!!
نبذة تأريخية:
كما أن أساس الطهر في قريش تمخض من سلالة هاشم – جد الحسين، فكذلك تمخض أساس الخبث في قريش من سلالة أمية – جد يزيد، رغم أنه ولد من سلالة قريش أبولهب، وسلالة أمية أولدت من الفضلاء. لتحصل المواجهة الميدانية بين فرعي قريش عندما أبى الحسين الإذعان لمطالبة يزيد بالبيعة بعد هلاك أبيه الذي وسد له وسادة الحكم قبل موته. وقد أوجز الإمام الحسين في تصريحاته توصيفه ليزيد في ثلاثة خصال: مرتكب الزنى، وشارب الخمر، وقاتل الأبرياء، وذلك ما اشتهر به يزيد دون التخفي. ومواجهات بني أمية وبني هاشم لم تكن بمستجدة في العقد السادس من التاريخ الهجري، بل سبقت الإسلام، وكان أبو سفيان وأسلافه وأشياعه في صلب مواجهات قريش ضد رسول الله منذ أول استهلال للدعوة الإسلامية. ولم تنحصر العداوة الأموية لرسول الله في الطرف الذكوري في بني أمية، حيث انبرت جدة يزيد – هند بنت عتبة بموقفها الصارخ في استهداف واغتيال سيدنا حمزة والتمثيل بجثمانه الشريف. واستمر التراث عند مروان (الحمار) الذي نبذه رسول الله، ومعاوية في اغتياله للعديد من الصحابة وحربه مع أمير المؤمنين وخيانته للإمام الحسن ثم اغتياله بالسم.
مبايعة يزيد من الإمام كانت ستشرعن تصديه للخلافة رغم الشائن من سلوكه وأفعاله، والحسين وريث رسول الله وإمام زمانه، فإن موافقته كانت ستهدم أركان الإسلام ومصداقيته. ومنها يفسَّر حديث رسول الله “الحسين مني وأنا من الحسين”، فالحسين ابن بنت رسول الله ومنه نسلاً، ورسول الله من الحسين بإنقاذ رسالته وشريعته من الاختطاف الأموي. وأتت مطالبة البيعة ليزيد بمداهمة الإمام في مكة مع التهديد بالقتل في الأرض الحرام الذي لم يمكن تنفيذه لصلابة الإمام وشجاعة فتيانه، مما دفع الإمام للخروج بعيداً، فاتجه مع أهله وأولاده والمقربين من أصحابه نحو الكوفة التي كاتب الألوف من أهلها الإمام داعين إياه لأن ينخرطوا تحت رايته في مواجهة يزيد. ولكن سرعان ما نكث أهل الكوفة بيعتهم للإمام إلا القليل القليل منهم. فالتحق ذلك القليل بالركب الإمامي الذي ابتعد عن الكوفة وحل بأرض كربلاء.
للتفصيل، أحب أن أشارك المتابعين الكرام لتعريف تصوري للموضوع في طرح فكري مبني على ما تسالم عليه عموم المؤرخين، وليس تأريخياً، وفيه يتلخص التبرير لدي لاستمرار البكاء رغم مرور 14 قرناً على أحداث واقعة الطف في عام 61هـ، في ثلاثة عناصر كالتالي…
1) بشاعة الجرم الأموي على الرسول (ص) وأهل البيت (ع):
جهز يزيد جيوشه لملاقاة الإمام وركبه لاستخلاص بغيتهم المكملة لاختطاف الإسلام وتثبيت ملك بني أمية على المسلمين بصفة رسمية مصادق عليها من ذرية رسول الله، وتم محاصرة الإمام ومرافقيه في كربلاء على مقربة من نهر الفرات، حيث خيمت القافلة الإمامية، التي ضمّت الإمام وأولاده وأزواجهم وأخاه العباس و72 من خلّص أصحابه. بينما بلغ جيش يزيد الذي حاصر الإمام في كربلاء عشرات الألوف من المحاربين المدججين بالسلاح والعتاد. وقام الجيش بعزل مخيم الحسين عن الفرات وحرمهم من الماء.
حرمان المخيم الحسيني من الماء وبينهم النساء والأطفال والرضّع من أولاد رسول الله وغيرهم من المؤمنين الذين أبووا إلا أن يصحبوا الإمام في رحلته الرسالية كان مأساةً إنسانية تفوق التصور. وتفاقم الأزمة على مر الأيام الثلاثة لانقطاع الماء أدى بالإمام يوم العاشر من محرم سنة 61هـ إلى المطالبة بسقي رضيعه البالغ من العمر أشهُراً قليلة، فكان الرد برمي الرضيع على صدر والده الإمام بسهم ذبحه.
وانبرى الإمام في الميدان يخاطب الجمع الذين ادعوا بأنهم مسلمون، معرّفاً نفسه بعلاقته من صاحب الرسالة التي يدعي أولئك المحاربون اتباعها، ومبيّناً عهده في الإسلام، وموضّحاً موقفه من المطالبة بالبيعة مع تعريف شخصية يزيد، وبذلك يكون قد أسقط أعذار من قد يكون غافلاً. فنتج من خطبة الإمام انتباهة لدى بعض المحاربين والتحاق البعض إلى طرف الإمام. فكان الرد بأن يطلق قائد ذلك الجيش الظالم (عمر بن سعد بن أبي وقاص) بأول سهم تجاه خيام الحسين صارخاً “اشهدوا لي عند الأمير بأني أول من رمى” حتى يحظى جائزته الموعودة (ولاية الري في فارس، التي قتله يزيد دونها). فانطلقت شرارة الحرب التي كره الإمام وآلى على نفسه وأصحابه ألا يكونوا هم المبادرين بها.
جيش الإمام وأهله وأصحابه الذي لم يتجاوز الثمانين رجلاً بينهم ثلاثون من الفرسان ما كان ليصمد سوى ساعاتٍ أمام جيش يزيد الذي سجل التاريخ روايات عديدة لتعداده من أقلها الثلاثين ألفاً بين فارس وراجل، رغم البطولات الرائعة التي أذهلت المؤرخين لسلوك أصحاب الإمام وأولاده. وانتهت واقعة الطف التي استهلت أحداث المعركة فيها صباح عاشوراء قبل غروب ذات اليوم بسقوط الإمام كآخر محارب، ليبدأ مسلسل مآسي عاشوراء ببشاعتها المجسدة للبشاعة الأموية.
بينما كان جسد الإمام المضرج بالدماء الجارية عليه من أثر السهام والنبال والسيوف التي نهشت جسده الشريف في مداهمة جماعية من محاربيه، استدعى قائد ذلك الجيش الظالم من يقوم بذبح الإمام فقام بذلك الفعل بعد قلب جسد الإمام على وجهه، ورفع الرأس الشريفة فوق رمح كعلامة النصر. ثم أمر قائد الجيش – طاعة لأميره – بإطلاق الفرسان لأن يهشموا الجثمان الشريف بجري الخيول عليه، وتم قطع رؤوس أهل وأصحاب الإمام ورفعها فوق الرماح ليبدأ احتفالهم بالنصر الأموي الكبير بذبح أولاد رسول الله وخلّص أصحابهم. وانطلقت قطعان المحاربين تشعل خيام الحسين بالنار وبث الذعر في نساء رسول الله وبناته وأطفاله، وتحصيل الغنائم بنهب ما يمكن من الممتلكات الخاصة بما فيه سحب زينة الأطفال من على أجسامهن وسحب الأقراط من آذانهن مع ما يسبب ذلك من الإدماء. كل ذلك مع ثكالى أهل بيت رسول الله اللائي فقدن كل رجالهن في معركة قاسية دامية لم تبق من نسل رسول الله سوى الشاب العليل الذي منعه مرضه الشديد من النزال والشهادة في وقتها وهو الإمام زين العابدين علي ابن الحسين.
واستمر مسلسل البشاعة بتقييد الإمام العليل زين العابدين بالحديد والنساء بتقييدهن إلى الجمال والخيول ونقل الموكب عبر الصحراء إلى قصر والي يزيد على الكوفة عبيد الله ابن زياد، ثم إلى قصر يزيد في الشام، مع التشديد في إذلالهم كلما مرت القافلة في منطقة مأهولة بتعريفهم على أنهم من الديلم الكفرة. ويتم عرض حرم رسول الله وكأنهن سبايا معركة في الصحراء دحر فيها المسلمون (أتباع يزيد) جمهرة من الكفار. وانتهى المسلسل باستعراض مذل لحرم رسول الله في القصرين، انطوى على مواجهة يزيد للعقيلة زينب الحوراء ابنة أمير المؤمنين اخت الإمام الحسين وبقية النساء بالاستهتار والتهكم والتشفي بمقتل الحسين وأهله وأصحابه بينما هو ينكت على ثغر الحسين بعصاً في يده، فانبرت زينب والإمام زين العابدين بمواجهة يزيد بخطابٍ ألجمه من صلابة أولاد رسول الله وإيمانهم ورضاهم بما قدّر الله لهم، وختمت زينب النزال بأن قالت “ما رأيت إلا جميلاً”… نعم، كل ما قدره الله جميل، حتى وإن كان مذبحة لأعز وأحب الناس على أيدي أوسخ خلق الله.
لا أشُكّ أنا – وإخواني من محبي رسول الله وأهل بيته من كافة مشارب ومذاهب المسلمين – أن رسول الله وأمير المؤمنين والزهراء والإمام الحسن قد وهبهم الله في عالمهم الأسمى من هذه الدنيا حياةً تتيح لهم الاطلاع على مجريات هذه الحياة، وقد شهدوا ما جرى على أهلهم في كربلاء على أيدي من يدعون كونهم مسلمين. ولا أقوى على تصوّر ما قد يكون أصابهم من الألم من جراء ذلك. لك العزاء يا سيدي يا رسول الله ولأهل بيتك الأطهار جميعاً!
2) إنقاذ مسيرة الإسلام من الاختطاف الأموي:
شهدت مسيرة الإسلام منعطفاً خطيراً كاد أن يودي برسالة الإسلام على يد الأمويين، بلغت شدته أقصاها بتسنم يزيد سدة الخلافة رغم ما عُرف من سلوكه الخارق والمخالف لكل ما يعبر عن خلق الدين ورسالة محمد. ومنه تم استيعاب معنى “وأنا من الحسين” في حديث رسول الله عندما وقف الحسين وقفته وخرج في نهضته التي لخص هدفها إذ قال “إني لم أخرج أشراً ولا بطراً ولا مفسداً ولا ظالماً، وإنما خرجت لطلب الإصلاح في أمة جدي”، وذلك لدرء الفساد الذي ظل متوخياً ومنتظراً خطوة الشرعنة بخضوع الإمام الحسين، بعد أن كان يزيد قد أجبر معظم الصحابة على تقديم البيعة له.
وكيف يرضى الحسين بالخضوع وهو “الحسين”، سيد شباب أهل الجنة الذي لا يرى الموت إلا سعادة والحياة مع الظالمين إلا برماً. وقد صرح بأن يزيد كان قد ركز الموقف بين “سلة السيف” و “ذلة الإذعان”، وموقف الحسين هو “هيهات منا الذلة، يأبى الله لنا ذلك ورسوله”. وقد كان. فحمل الحسين سيفه، واستله حين اقتضى الموقف ذلك، وضحى في سبيل إنقاذ الدين بنفسه ونفوس أولاده وأصحابه، وبالمعاناة المأساوية العظيمة التي مرت بها نساء رسول الله.
ولأن ملك بني أمية استمر وتراثهم لوث جزءاً من الدين، فلزم أن يستمر التراث التصحيحي الذي انبثق من نهضة الحسين وتضحياته العظيمة التي اختزلت في واقعة عاشوراء في كربلاء، تحفها آلام المأساة التراجيدية التي شهدها العاشر من محرم عام 61 هـ. ولا شك أن الزخم العاطفي المنطوي في هذه المقطوعة من التاريخ يرسخ الواقعة في الوجدان المؤمن معززاً الحزمة الفكرية الدينية لنهضة الحسين، وتحريك وجدان الأمة الإسلامية لئلا تذعن المسيرة الإسلامية للفساد الأموي الذي كاد أن يختطفها ويستفرد بنهج يجرد الدين من الاستقامة والصلاح.
3) المودة في القربى
“قل لا أسألكم عليه أجراً إلا المودة في القربى” (الشورى 23)
الله عز وجل قد شرّع في القرآن الكريم المودة في قربى رسول الله أجراً له على المؤمنين. وبدوره لم يخف رسول الله شدة حبه للحسين منذ طفولته، حيث كان يصطحب الحسنين إلى المسجد ويسمح لهما بالتصرف كما شاءا حتى أثناء إمامته للجماعة. وقد كانا يعتليان ظهره أثناء سجوده فينتظر دون استعجالهما ويبقى المأمومون في انتظار أن يشبع الحسنان من ذلك الموقف. وقد ذهب الناس إلى تفسير ذلك بأن الرسول يرشد المسلمين إلى مودة ومراعاة الأطفال… فهل لكل إمام صلاة أن يجلب أطفاله معه فيلهون ويلعبون معه أثناء الصلاة ويعطلون المصلين؟ أم أن للحسنين حالة خاصة أراد رسول الله تنبيه المسلمين إليها…
عكف رسول الله طوال حياته الشريفة إلى تنبيه المؤمنين للوضع الاستثنائي الذي خصصه لأهل بيته بدءاً بأمير المؤمنين والزهراء والحسنين، ودلت الأحاديث المروية عنه على الوضعية الخاصة والمقام الاستثنائي للأئمة الأطهار من أولاد الحسين. وقد شهد التاريخ بكون كل أئمة أهل البيت حتى الإمام الحادي عشر الحسن العسكري بالفضل والزهد والعلم والحكمة وسمو الأخلاق وحسن السيرة والعشرة.
والخصوصية الخاصة التي حظي بها الحسين لدى رسول الله كانت نزول جبريل منبئا رسول الله ما سيجري على الحسين على يدي أمته، وأتاه بتربة كانت ستحول إلى دم عبيط عند قتل الحسين، التي أودعها رسول الله عند زوجته أم سلمة، وتشير الروايات أن ذلك فعلاً قد حصل يوم عاشوراء. وورد أيضاً بكاء ونحيب رسول الله كلما لاقى الحسين بعدها، ولم يكن يتحمل بكاء الحسين خاصة. واستكمل رسول الله تربية الحسنين وبيان مقامهما إذ قال أن الحسن والحسين “إمامان قاما أو قعدا” و “ريحانتاي من الدنيا” و “سيدا شباب أهل الجنة” وغيرها الكثير الكثير من الروايات.
فهل يرضى رسول الله بأذية يصاب بها الحسين وغيره من أولاد رسول الله – قربى رسول الله، وخصوصاً ما انطوت عليه مجريات واقعة الطف من المآسي والبشاعة من موروثات الانحطاط البشري، وبالأخص أن يحدث ذلك على أيدي مدعي اتّباع رسول الله…؟!
الخلاصة:
رسول الله نفديه بآبائنا وأمهاتنا، وسلوكه وسيرته وسنته تشريع لنا، ومحاطّ نظره ومودته ورضاه لنا محاطّ شفاعة ودلالات التماس رضاً وتزلف. والحسين لا شك في صميم تلك الأركان.
فيا حبيبنا وسيدنا ومولانا يا رسول الله، سنؤدي لك المودة في قرباك، وسنحب أهل بيتك، وسنتمسك بسبطك الحسين، وسنخلّد ذكرى مصابه يوم عاشوراء قربة إلى الله، وسنصدح بالحق الذي في رسالتك، وسنبكي على الحسين، وفاءً لك…

وفاءً لرسول الله…

عند كل ذكر لرسول الله: صلى الله عليه وآله وسلم
وعند كل ذكر لأفراد أهل البيت: عليه السلام